(ثانيا) نظرية الاشمونين : كانت نظرية الاشمونين أو الثمانية أكثر تطورا من تلك التي سبقتها وقد ردت أصل الوجود إلى ثمانية عناصر طبيعية أولية سبقت ظهور ( رع آتوم ) ومهدت لوجوده ، وتعصب هؤلاء لعناصرهم الثمانية وأطلقوا عليه اسم " الثامون " ، وخلعوا اسمها على مدينتهم فدعوها ( مدينة الثامون ) " الاشمونين " غير أنهم بدأوا بصياغة مذهبهم خلال العهود الأواخر من فجر التاريخ القديم ، لم يكونوا قد اهتدوا بعد إلى سبل الكتابة والتدوين ، ومن ثم فقد كان على المذهب أن يظل على أفواه أصحابه حتى تبدأ عصور الكتابة في القرن الثاني والثلاثين قبل الميلاد أو نحوه ، حيث بدأت بهما العصور التاريخية. غير أن ظروفا أخرى ساعدت على بقاء مذهب أونو ( خمنو ) في طي النسيان قرونا طويلة ، منها أن أمور السياسة والفكر لم تعد وقت ذاك تتقبل الإقليمية من أهلها ، وإنما اتجهت إلى دعم المركزية المطلقة في عاصمة الدولة وحدها ، ومنها أن رجال الدين في الدولة القديمة حين عمدوا إلى تدوين أولى موسوعاتهم الدينية والمذهبية في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد ، كانوا من أنصار رع ومذهب التاسوع بالذات فعمدوا إلى تجاهل مذهب خصومهم من أهل أونو ولم يذكروا غير أربعة من أسماء عناصره أو نحوها بين الأصول ، وفى العصر الاهناسى لم يستطع أهل أونو ، في مقابل منافسة أهل الشمس ، غير تسجيل أسماء أربابه الثمانية في عدد من النصوص دون شرح أو تفصيل ، وفى العصور المتأخرة نجح أصحاب مذهب ( أونو ) أن يسجلوا ما ترامى إليهم من صفات أربابه وعناصره ، فسجلوها في بضعة نصوص متفرقة يغلب عليها طابع التفلسف وطابع الاستغلاق في الوقت نفسه . هذا وتتفق نظرية الاشمونين أو الثمانية مع نظرية عين شمس أو التاسوع في أن العالم كان محيطا مائيا اسمه ( نون ) ، ولكنها تختلف عنها في أن اله الشمس هنا لم يخلق نفسه وإنما انحدر من ثامون مكون من أربعة أزواج على هيئة ضفادع وحيات ، خلقت بيضة وضعتها فوق مرتفع على سطح ( نون هرمو بوليس ) ومن هذه البيضة خرجت الشمس ، فهذه العقيدة تنتهي إلى الشمس ، ولكنها لا تبدأ بها والشمس وُلدت في هرمو بوليس وليس هليوبوليس ، ومن ثم فأن للأولى ( هرمو بوليس حق السيادة).
وأما آلهة الاشمونين الثمانية فكانوا عبارة عن أربعة ذكور في هيئة الضفادع ، وأربعة إناث في هيئة الحيات ، وكل منهما مَثل مظهرا من المظاهر التي كانت تسود العالم في البداية ، فالزوج الأول هو ( نون ) و ( نونه ) " نونت " ويُمَثل الفراغ اللانهائي ، والزوج الثاني هو ( حوح ) و ( حوحه) " حوحيت " ويُمثل الماء الازلى ، والزوج الثالث هو ( كوك ) و ( كوكه ) " كوكيت " ويُمَثل الظلمة ، والزوج الرابع ( نياو ) و ( نيات ) و ( آمون ) و ( آمونيت ) ويُمثل الخفاء وأن هؤلاء الثمانية قد خلقوا العالم مجتمعين ، ثم حكموا فترة من الزمن ، اُعتُبرت بمثابة العصر الذهبي ، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى العالم السفلى ، وإن استمرت قوتهم بعد موتهم لتكون سبباً في فيضان النيل وفى شروق الشمس كل صباح . عدد الثمانية الذي عُرفت به مدينة الاشمونين يشير إلى الإلهة الثمانية التي كان موطنها الاصلى مدينة ( أونو )وقد نُطق في المصرية القديمة ( خمون أو خمنو ) وفى القبطية ( شمون ) ثم ثنى اللفظ في اللغة العربية فأصبح ( شمونين ) ، وظل يطلق على الجانبين الواقعين على بحر يوسف من مدينة الاشمونين ، على أن هناك من يذهب إلى أن اسم ( خمون ) أو ( خمنو ) سبقه إلى الوجود – فيما قبل العصر الاهناسى – اسم ( أونو ) التي أعطت أسمها للإقليم " ونوت " وكانت تقع في العصر التاريخي فيما وراء خمنو ثم أصبحا فيما بعد مدينة واحدة تتكون من جزأين ، الواحد " ونو " والثاني " خمنو " وكانت خمنو ( الاشمونين ) عاصمة الإقليم الخامس عشر من أقاليم الصعيد ، وقد عُرف باسم إقليم الأرنب و الذي رُمز له به ، وقد أطلق الإغريق على المدينة اسم ( هرمو بوليس ) أي مدينة هرمس الإله اليوناني المقابل للإله تحوت اله الاشمونين ، والتي تقع على مبعدة 10 كم شمال غرب ملوي ( 45 كم جنوبي مدينة المنيا ).
نقد نظرية الاشمونين : 1. أن نظرية الاشمونين لم تصل إلينا من نقوش معاصرة أو حتى قريبا منها كما حدث مع نظرية عين شمس ، التي حُفظت لنا في متون ألأهرام ، وكما حدث بالنسبة لنظرية ( منف ) التي حُفظت في نقش حجري ، يرجع إلى أيام الملك شباكا ( 716 – 695 ق . م ) ، وإن كانت دون شك ترجع إلى تاريخ موغل في القدم ، بالإضافة إلى أن الاشمونين لم تكن يوما ما مقراً للعرش المصري، ومن ثم لم تجد ملكا يهتم بها بالدرجة التي تجعله يأمر بنقشها في مقبرة أو هرم أو حتى على حجر ، وربما تعرضت المدينة للتخريب منذ عصور ما قبل التاريخ ، مما أدى إلى ضياع تلك النظرية ، وهكذا لجأ العلماء إلى البحث عنها في مقتطفات من نصوص تنتمي معظمها إلى طيبة ، والتي كان معبودها آمون واحدا من آلهة أونو ( الاشمونين ) الثمانية ، بل أن هذه المقتطفات نفسها إنما يرجع معظمها إلى العصر اليوناني الروماني ، وليس إلى العصور الفرعونية . 2. أن تعاليم الاشمونين إنما تبدأ بالبداية الأولى للكون ، الهيولى ( مادة الكون قبل خلقه ) ، والذي تصوره القوم مياها أزلية موحلة بما علق عليها من طمي ، مستمدين هذه من المياه التي تُغرق الأرض وقت الفيضان ولعل تصور القوم الإلهة الأربعة الذكور برؤوس ضفادع ، والإلهات الأربعة الإناث برؤوس ثعابين ، إنما هو من تأثير آخر في هرمو بوليس يربط هذه الإلهة الثمانية بالحياة البرمائية التي تكونت نتيجة لخلق نفسها بنفسها في الطمي الذي يخلقه عادة فيضان النيل كل عام وان ذهبت أراء إلى إن تصوير الإلهة الثمانية بهذه الإشكال إنما يعنى في التفكير المصري أنها كانت في الواقع حيوانات من هذا النوع ، مخلوقات تكونت بنفسها من الطين ، وذهبت أراء أخرى إلى أن الإلهة الثمانية في أشكالها هذه إنما هي مُناسبة لسكنى الأصل البدائي ، وإنهم لم يكونوا جزاً من الكون المخلوق ، وان كانوا من الهيولى نفسه ، كما تشير إلى ذلك أسمائهم ، على إن هناك وجها ثالثا للنظر يذهب إلى أن الآلهة الثمانية إنما نشأت من تل هرمو بوليس البدائي ، أي نشأت بعد ارتفاع التل البدائي من الهيولى . 3.أن القوم رغم أنهم لم يتركوا لنا نصوصا في تعليل ما دعاهم إلى اختيار رؤوس الضفادع لذكور الآلهة ، ورؤوس الحيات لإناثها إلا إن ذلك نوع من القصد السليم وعُمق التفكير ، فكل من الضفادع والحيات يناسب الحياة الأولى التي عاشتها الأرواح الثمانية كل المناسبة ، فهي تحيا في الماء واليابس ، وتحيا كذلك عن قربهما ، وتبدوا كما لو كانت تختزن في جوفها الهواء ، ولعلهم زادوا كذلك فافترضوا في الضُفدع على أقل تقدير تمثيلها لمرحلة عتيقة من صور الحياة الأولى ، ولاسيما انه يتبدى من مظهرها الأغبر وجلدها ألمغض ما يوحى بالقِدم والتقادم لجنسها بالفعل ، فضلا عن انه في الكثرة الهائلة التي تتوالد بها على شواطئ الماء ما يوحى باتخاذ مخلوقاتها الصغيرة رمزا للكثرة التي تعاقبت بها المخلوقات الأخرى الكبيرة وتم بها عُمران الكون، وهو أمر اخذ به المصريون في كتاباتهم التصويرية القديمة ، فجعلوا من صور يرقة الضُفدع رمزا يعبر عن مائه.
4. أن النصوص إنما تُشير إلى أن عمل الآلهة الثمانية إنما هو خلق النور ، أي خلق اله الشمس ، ومن هنا فقد أُطلق عليها " الآباء والأمهات الذين صنعوا النور ، والمياه التي صنعت الهواء ، أباء وأمهات الشمس " و " الأرواح التي صنعت الشمس " و " الآلهة القدامى الذين صنعوا ساكن الأفق ( رع ) ، والذين خلقوا اله الشمس بعد الظلام " ويشير كتاب الموتى من عهد الدولة الحديثة إلى أن خلق النور إنما تم عن طريق الإلهة الثمانية القدامى . التي تركت اله الشمس ينشأ في زهرة من زهور اللوتس عند مصدر الماء القديم ، ومنها خرج اله الشمس ، ويذهب ( كورت زيته ) إلى أن خلق النور إنما قد حدث فوق التل البدائي لهرمو بوليس ، ذلك لأنه إنما كان أول قطعة أرض صلبة انبثقت من مصدر الماء نون ، والتي يمكن أن يمارس فوقها هذا العمل . 5. ربما أمكننا القول إن نظرية الاشمونين هذه ربما تُكمل نظرية عين شمس ، وذلك لان نظرية هليوبوليس قدمت لنا نظرية خلق كاملة للكون الحالي وعناصره ، ولكنها أهملت جانبا هاما من قصة الخلق يتمثل في مادة الكون وطبيعته قبل الخلق ، فضلا عن التل البدائي الذي مارس فوقه آتوم أول أعماله في الخلق ، ومن ثم فأن نظرية هرمو بوليس تُكمل هذا النقص عن طبيعة الكون ومادته قبل الخلق ، فتذهب إلى أن ثامونها إنما هو تشخيص وصفات للهيولى ، وهو مادة الكون قبل خلق العالم ، ومن ثم فإذا ضُمت النظريتان إلى بعضهما لأنتجا نظرية شبه متكاملة لا ينقصها سوى تفسير كيفية وجود التل البدائي ذلك لان التعاليم الهرموبوليتانية لم تقدم لنا تفسيرا اثيولوجيا مع ضرورة وجود هذا التل لتعيش الآلهة الثمانية ، فضلا عن إشارة هذه التعاليم إلى قيام هذه الآلهة بخلق النور فوق هذا التل . 6. أن تعاليم منف وطيبة عن فكرة الخلق إنما تشير إلى إن كلا منها تحاول أن تثبت تفوقها عن طريق تقرير أن الآلهة الخالقة في هليوبوليس وفى هرمو بوليس إن هي إلا صور ومظاهر لبتاح منف وآمون طيبة ، مما يثبت أصالة عقيدتي أيونو( عين شمس ) واونو ( الاشمونين ) ، كما أن كلا منها لها طابعها الخاص هذا فضلا عن إن طبيعة تعاليم هرمو بوليس والمفهوم الذي تقدمه إنما يشير إلى إنها أقدم من تعاليم هليوبوليس ، وإذا ما قيل أن الأولى وُضعت لمنافسة الثانية فيما يتصل بنسبة الخلق إلى آتوم اله أيونو ( الاشمونين ) فان ذلك يمكن قبوله بالنسبة لتعاليم منف مثلا ، حيث تنص صراحة على إن آتوم من خلق بتاح ، أما تعاليم اوتو فقد أعطت تفسيرا لطبيعة الكون قبل الخلق ، ثم خُلق النور بإنتاج اله الشمس الذي لم يكن آتوم ، وإنما اله آخر لقبه القوم " شبسى الذي في خمنو ، الابن الرائع للثامون " فضلا عن إنها تعاليم منطقية تعطى تفسيرات معقولة أكثر من عبارة " الذي خلق نفسه " التي نسبها كهان هليوبوليس إلى ربهم آتوم ، الذي جعلوه مخلوقا من نفسه ، ولم يخلقه احد بل انه خلق كذلك عناصر في الكون كأبناء له ، منها السماء التي هي في الواقع أعظم إذ انه يسير في فلكها ، بل هي أمه التي تنجبه كل صباح وهذا في حد ذاته يُرجح أن عقيدة هرمو بوليس لم تكن احدث من تلك التي كانت لهليوبوليس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.