حاول المصريون القدامى منذ عصورهم السحيقة التعرف على أسرار العالم وكيفية خلق الأرض , وقد استطاع رجال الدين والفكر أن يقدموا وجهات نظر مختلفة في أربعة مراكز حضارية مختلفة عن تفسير النشأة الأولى للخليقة ، ظهرت كل واحدة منها بعد الأخرى وهذه المراكز على التوالي : عين شمس , الاشمونين , منف , طيبة .
(أولا) نظرية عين شمس :
كانت نظرية أيونو أو أون ( هليوبوليس = عين شمس ) أولى هذه النظريات الأربع ، وقال بماض سحيق قديم ، لم تكن فيه أرض ولا سماء وما من أرباب أو بشر ، وإنما عدم مطلق لا يشغله سوى كيان مائي لا نهائي عظيم ، أطلقوا عليه اسم ( نون ) ظهر منه روح الهي ازلى خالق هو ( آتوم ) ، لم يجد مكانا يقف عليه فوقف على ( تل ) ثم صعد على حجر ( بن بن) في هليوبوليس على هيئة مسلة رمز الشمس ، أبو الإلهة جميعا ، وظل أتوم هكذا حينا من الدهر منفردا بوحدانيته ، حتى ذرأ من نفسه – باستمنائه – عنصرين : الواحد ذكر تكفل بالفضاء والهواء والنور ، وأصبح يعرف باسم ( شو ) ، والآخر أنثى تكفلت بالرطوبة والندى وغدت تعرف باسم ( تفنوت ) ثم تزاوجا وأنجبا بدورهما ( جب ) اله الأرض ، و( نوت ) إلهة السماء ثم أوحى إلى ( شو ) أن يفصل بين السماء والأرض وان يملآ فراغ ما بينهما بالهواء والنور . ثم ذهب أصحاب عين شمس إلى افتراض حلقة وسطى بين الأوضاع المطلقة التي بدأ بها الوجود ، حينما كان خاصا لأربابه الكبار والأوضاع التي استقر عليها أمر الوجود حينما عَمًره الإنسان ، فذهبوا إلى أن ( جب ) و ( نون) إنما قد رُزقا بمواليد أربعة ذكران هما ( أوزير و ست ) وأنثيان هما ( ايزة و نفتيس ) وقد عُرف هؤلاء الآلهة التسعة باسم ( تاسوع عين شمس ) أو التاسوع الكبير .
نقد نظرية عين شمس : 1. إن مفكري عين شمس قد سبقوا مفكري العالم بفكرة فصل السماء والأرض ثم رددتها فيما بعد أساطير الخلق العراقية . 2. إن أصحاب هذه النظرية أرادوا أن يتغلبوا على مشكلة إنجاب نسل عن طريق اله وحيد , دون آلهة أخرى بأن جعلوا أتوم يُنجب شو و تفنوت عن طريق الاستمناء , كما أنهم أرادوا بأن يمثل الزوجان الأوليان من أبناء آتوم ( شو , تفنوت , جب ,نوت ) عناصر كونية في العالم , هي الهواء والرطوبة والسماء والأرض . وان يمثل الزوجان الأخريان ( أوزير و ايزة وست ونفتيس ) ظواهر أرضية في الكون , فأوزير إنما يمثل النيل الذي يسبب خصوبة الأرض وإنتاجها للمحاصيل ، وتُمثل ايزة الأرض السوداء التي تنتج المحاصيل بعد ارتوائها من النيل بينما يمثل سِت أرض الصحراء القاحلة الحمراء ، وتمثل نفتيس تلك الأرض البور التي كانت مُهيأة للإنتاج إذا ما وصلتها مياه النيل ، ومع ذلك فالفكر الديني الهليوبوليتانى إنما أردا من وجود هذين الزوجين تَمثيل الكائنات التي تعيش في هذا الكون بشرا أو آلهة بعد خلق عناصره ، على إن هناك من يذهب إلى إن هذين الزوجين إنما يمثلون جسرا بين الطبيعة والإنسان وليسوا عناصر كونية أبدا . 3. إن هذه النظرية لم تقدم لنا نظرية متكاملة عن الخلق فقد بدأت عملية الخلق بارتقاء آتوم فوق تل ، ثم صعد فوق حجر بن بن في هليوبوليس حتى ذرأ من نفسه الزوج الالهى الأول شو وتفنوت ولكنها لم تشر إلى دور آتوم كخالق بالنسبة إلى(الهيولى ) أو ( الماء الازلى نون ) – مادة الكون قبل خلقه – وهل آتوم هو الذي خلق نون ، أم نون هو الذي خلقه ، فأن صح الاحتمال الثاني فلن يكون آتوم هو الإله الازلى الذي خلق نفسه بنفسه ، والأمر كذلك بالنسبة إلى (التل) البدائي الذي صعد فوقه ليمارس عملية الخلق . 4. إن ارآء أصحاب هذا المذهب قد تباينت حول الطريقة التي ذرأ بها آتوم مخلوقاته الأوائل ، لاسيما وَلَديه القديمين شو و تفنوت ، فقال أيسرهم سبيلا ، انه خلقهما بماء اللقاح ، كما يخلق بنو البشر عادة ، غير أن هناك من حاولوا أن يخرجوا من المدلول اللفظي الاسمين ، شو وتفنوت ، بما يدل على طريقة خلقهما ، فقربوا بين كلمة شو وبين الصوت الذي يصدر عن الفم أذا نفخ ، والأنف إذا عطس كما قربوا بين كلمة تفنوت وبين الصوت الذي يصدر عن الفم إذا تفل ، وانتهوا من ذلك إلى أن ربهم الخالق أتوم نفخ ذات مرة أو عطس عن قصد ، فصدر عنه شو روح الهواء ، وتفل مرة أخرى فصدرت عنه تفنوت روح الرطوبة والندى .
5. انه حدث فيما أعقب تأليف هذا المذهب من عهود أن تولى الزعامة في مدينة أيونو جماعة من أهلها أو من جوارها القريب( ربما من مدينة " ساخبو " على الضفة الغربية في مواجهة أيونو عبر النهر تقريبا ، وربما كانت ساخبو ممتدة إلى أيونو) دانوا بدين اله الشمس رع ، وأفلحا في إن يجعلوا مدينتهم حاضرة رئيسية في ملك مصر العريض ، ولم يُنشأ أنصار رع لأنفسهم زعامة الحكم وحده ، وإنما ابتغوا كذلك زعامة في الفكر والدين ، ولم يكن أقرب إلى توطيد زعامة الدين في جانبهم من أن ينادوا بربهم رع كبيرا لبقية من كان بتعبدهم أهل عصرهم من الأرباب ، لولا أن مدينته أيونو (عين شمس أو فيما بينها وبين المطرية ) كانت من قبل قد أمنت بربها أتوم ، واعتبرته خالقا للوجود والأرباب على السواء ، وتعين على أرباب رع أن يتلمسوا للربط بين ربهم وبين آتوم ما يستطيعونه من الصلات والأسباب وتفتحت قرائحهم عن طائفة من قضايا المنطق والتلاعب باللفظ ، لم يسجلوها للأسف في عهودهم الأولى ، وإنما عبّرت عن أمثالها عبارات أخرى تناقلها أشياع مذهبهم فيما تلاهم من عصور وسجلوها في متون لهم متفرقة خلال عصر الدولتين الوسطى والحديثة . وفى جانب من هذه المتون نسب أنصار المذهب إلى آتوم عبارة يقول فيها عن نفسه " ظللت آتوم حين كنت فرداً ، غير انك أصبحت رع منذ تجلياته القديمة " وعبارة أخرى يؤكد فيها ذات المعنى ، فيقول " ظللت آتوم حين كنت وحيداً في نون ، ولكنك غدوت رع في جلاله منذ بدأ يُشرف على ما خلفه وأبدعه " وبأشبه هاتين العبارتين ، إن لم يكن بنصهما ، خرج أتباع رع يعلنون على الناس أن ربهم رع لم يكن إلها جديداً على الإطلاق ، وإنما هو آتوم الخالق القديم من بعد أن شاءت إرادته أن يتجلى على الناس في هيئة إله الشمس " وأن ينير العالم من أفقه العظيم " فالأمر إذن في زَعمهم لم يكن أكثر من تداول بين اسمين ، أما الرب الخالق صاحب الاسمين فهو واحد . وعلى نحو قريب من هذا المنطق تيسر لأصحاب أيونو أن يزاوجوا بين الاسمين ، فأصبح ربهم الخالق يُدعى " رع آتوم " وأخذ أشياعهم عصراً بعد عصر يضيفون إلى آتوم كل النعوت التي كانوا يخلعونها على رب الشمس وحده ، ومن هذه النعوت ( خبري ) وهو من ألفاظهم التي تلاعبوا بها تلاعبا واسعاً ، وكانوا ينطقونه ( خبر ) ويكتبونه بصورة ( الجُعل )أو الجعران في كتاباتهم التصويرية القديمة ، ويدل هذا اللفظ في بعض صيغه على الأفعال ( حدث – نشأ – تكون – أصبح ) كما دل في صيغ أخرى له على اسم " الوليد " وصفة " الحدث " بمعنى حديث التكوين ، وإذا أضيفت له ( ياء ) أخيرة أو جرة فأصبح ( خبري ) وغدا معناه ( الكائن ) أو ( الموجود ) ، وإذا كررت راؤه الأخيرة فأصبح ( خبرر ) دل على نفس معنى الكائن الموجود ن وذاد عليه خاصة الاستمرار، وأصبح معناه ( دائم التكوين ودائم الوجود ).
وأطلق المصريون القدامى لفظ خبر ومشتقاته على طائفة من المقدسات والأرباب فأطلقوه تارة على كوكب الشمس حين الشروق ، وابتغوه بذلك أن يصفوه بصفة الحدث الذي ظهر لتوه ، ثم عادوا وأطلقوا الاشتقاق ( خبري ) على رب الشمس ومسير كوكبها ، وقصدوا به معنيين : أحدهما فقهي وهو تلقيبه بلقب الكائن أو الموجود ، وألا خر شعري : وهو تصويره للناس بصورة الجعل العادي حين يدفع بويضاته أو كرة الطعام بين يديه ويدحرجها في طريقه منذ الصباح الباكر . وادخر أهل أيونو الاشتقاق الأخير من ( خبر ) وهو ( خبرر ) لربهم الخالق آتوم وابتغوا كذلك معنيين : معنى فقهي يرمى إلى تلقيبه بلقب دائم الوجود أو دائم التكوين ، ومعنى آخر شعرياً أو مجازياً يرمى إلى تشبيه ظهوره الفجائي القديم من نون ، بما يظهر للناس من حال الجعل العادي حين كمن في باطن الرمال ثم يظهر فجأة على سطحه ، وكأنه ظهر من دنيا العدم إلى دنيا الوجود . 6. أن آتوم بصفته ( خالق نفسه ) فأن العمل التالي الذي قام به إنما كان خلق آلهة أخرى ، ونظراً لكونه كان وحيداً في العالم وقت ذاك ، فقد خلق ذريته دون زوجه ، بامتزاجه بظله أو باستمنائه ، ومن ثم فقد اعتبرته بعض النصوص إلهاً يجمع بين الذكورة والأنوثة وأطلقت عليه " عظيم هو – هي ". 7. أن تفنوت ، فيما يبدوا ، كانت لها أهمية أقل في نظرية الخلق الهليوبوليتانية ، باستثناء وظيفتها كزوجة لشو ، غير أن الكهنة سرعان ما نادوا بأن ( شو ) إنما كان عماد الحياة منذ وقت مبكر ، وأن ( تفنوت ) إنما هي أساس النظام في الحياة وأطلقوا عليها اسم الإلهة الشهيرة ( معات ) ومن ثم فقد أصبح شو وتفنوت إلهين صالحين لحمل دورة الخلق وتأسيس النظام الاجتماعي ، وعلى أي حال ، فليس هناك من دليل على المكان الذي وقعت فيه هذه الأحداث المبكرة ، فقد خلق شو وتفنوت ، طبقا لبعض النصوص على ( التل ) الازلى . لكن طبقاً لنصوص أخرى ، فأن آتوم ظل في مياه نون ، حيث أنجب فيها ولده وابنته ، وتعهدتهم بالرعاية عين آتوم ، وذلك طبقاً لأسطورة تذهب إلى أن شو وتفنوت قد انفصلا عن آتوم في أحراش مياه نون ومن ثم فقد أرسل آتوم عينه لتجئ بهما ، ولكنه في نفس الوقت فقد استبدل هذه العين بعين أخرى أكثر لمعانا ، مما اغضب العين الأولى كثيراً وحينئذ أخذها آتوم ووضعها على مقدمة رأسه ، حيث تستطيع أن تحكم العالم الذي كان على وشك أن يخلقه ، وقد صُورت هذه العين كإلهة مُدمرة ، وكان أحد مظاهرها الشمس المحرقة في مصر ، ثم ارتبطت مع الإلهة الكوبرا ادجو ، التي مُثلت على رؤوس الفراعين كرمز لقوتهم ، وعندما عاد شو وتفنوت إلى آتوم سالت دموعه من الفرح ، ومن هذه الدموع جاء البشر ، وعندما عاد آتوم لأولاده كان مستعداً لترك مياه نون وخلق العالم . 8.أن أولاد جب ( الأرض ) و نوت ( السماء ) الأربعة وهم أوزير و أيزة و ست و نفتيس ( فضلا عن حور أبن أيزة والذي كان أحيانا أبنا لنوت ) أنما أدخله الكهنة إلى نظرية الخلق الهليوبوليتانية كآلهة أقل مكانة من آلهة التاسوع الأصليين ، ومع ذلك فأن هذه الآلهة التي أطلق عليها أسم تاسوع هليوبوليس فقد بقيت كتقليد في الديانة المصرية القديمة ، وقد وضعت في مراكز العبادات الأخرى بنفس هذه الصلات ، وربما ارتبطت ببعض العبادات الأخرى مع شئ من التغيير كما يبدو ذلك بوضوح في أصل آتوم فقد اُعتُبر بشكل عام أنه خلق نفسه بنفسه وان قيل كذلك أنه ابن ( نون ) في محاولة لنسبة الخلق فيها إلى نون وجب ونوت ، ومن ثم فهو - مع إخوته الأربعة : أوزير و ايزة و ست و نفتيس- إنما كانوا مسئولين عن ولادة الناس على الأرض ، بينما تذكر نصوص أخرى أن ( نوت ) إنما قد سُميت " أم ألآلهة " و " التي تحمل رع كل يوم " ومرة ثالثة نقرأ في متون الأهرام أن الفرعون " ببى " قد تناسل من آتوم قبل خلق السموات والأرض والآلهة والناس والموت ،وفى فقرة أخرى يدعى ( ابن نوت ) وقد ولد قبل أن تخلق السموات والأرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.